من الجوع إلى العمل القسري.. الأمم المتحدة ترسم صورة قاتمة عن حقوق الإنسان في كوريا الشمالية
من الجوع إلى العمل القسري.. الأمم المتحدة ترسم صورة قاتمة عن حقوق الإنسان في كوريا الشمالية
دخلت كوريا الشمالية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين وهي أكثر انغلاقاً من أي وقت مضى، وفق ما يؤكده التقرير الأخير للمفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، الذي صدر في سبتمبر 2025 ويغطي الفترة التالية لتحقيقات لجنة الأمم المتحدة عام 2014، خلص إلى أن البلاد لم تحقق أي تحسن ملموس في سجلها الحقوقي، بل شهدت تدهوراً في عدد من الجوانب الأساسية لحياة المواطنين، ووصف المفوض السامي فولكر تورك السنوات العشر الماضية بأنها "عقد ضائع"، مشيراً إلى أن الشعب يعيش "تحت قبضة قمعية لا مثيل لها في العالم".
مراقبة شاملة وقمع منهجي
يؤكد التقرير أن السلطات الكورية الشمالية عززت أدوات الرقابة والسيطرة على المجتمع، مستخدمة التكنولوجيا لتوسيع شبكات المراقبة والتجسس، ويخضع المواطنون لرقابة في تفاصيل حياتهم اليومية، فيما تُعاقب أي بادرة اعتراض أو نقد بأحكام قاسية قد تصل إلى الإعدام، وأحد الناجين الذي أدلى بشهادته قال: "لقد أرادوا إغلاق أعيننا وآذاننا بالكامل، فالقمع صار وسيلة لإخماد حتى الهمس".
معسكرات الاعتقال السياسي وظاهرة الاختفاء
رغم النداءات الدولية، لا تزال معسكرات الاعتقال السياسي قائمة في كوريا الشمالية ويعيش مئات الآلاف من المعتقلين في ظروف تصفها المنظمات الحقوقية بأنها "قريبة من معسكرات الموت"، حيث يجبر السجناء على أعمال شاقة ويتعرضون للتجويع وسوء المعاملة، كما يظل مصير آلاف المختفين قسراً مجهولاً، بينهم مواطنون من كوريا الجنوبية واليابان خُطفوا منذ عقود، في قضية إنسانية ما زالت تؤجج التوتر الإقليمي وتثير قلق المجتمع الدولي.
أزمة الغذاء وانتهاك الحق في الحياة الكريمة
الحق في الغذاء من أكثر الحقوق انتهاكاً في كوريا الشمالية، وفقا للتقرير الأممي فقد أدت السياسات الاقتصادية المغلقة، إلى جانب العقوبات الدولية والاعتماد المفرط على الزراعة الجماعية، إلى استمرار أزمات الجوع وسوء التغذية، وتشير تقارير برنامج الأغذية العالمي إلى أن ما يقرب من 40% من السكان يعانون من انعدام الأمن الغذائي المزمن، وترى المفوضية الأممية لحقوق الإنسان أن بعض السياسات الحكومية "تفاقم الأزمة بدلاً من معالجتها"، ما يجعل الجوع أداة قمع غير معلنة.
عقوبة الإعدام وسحق حرية التعبير
أصبح استخدام عقوبة الإعدام أكثر شيوعاً، ليس فقط ضد من يُتهمون بجرائم خطيرة، بل أيضاً ضد من يتداولون مواد إعلامية أجنبية مثل المسلسلات الكورية الجنوبية أو الأفلام الغربية، هذه الإجراءات تمثل تصعيداً في محاولات الدولة لعزل شعبها عن العالم الخارجي، ومنع أي تأثير ثقافي قد يثير تساؤلات حول طبيعة النظام، وبحسب هيومن رايتس ووتش، فإن "كوريا الشمالية اليوم من أخطر البيئات في العالم على حرية التعبير".
العمل القسري واستغلال الأطفال
من النقاط المقلقة التي أبرزها التقرير الأممي تزايد العمل القسري عبر ما يعرف بـ"فرق الصدمة"، وهي مجموعات يتم إرسالها للعمل في مشاريع شاقة مثل التعدين والبناء، هؤلاء العمال غالباً ما يكونون من خلفيات فقيرة، فيما كشفت تقارير عن إجبار آلاف الأيتام وأطفال الشوارع على العمل في مناجم الفحم في ظروف خطرة ولساعات طويلة، ما يشكل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي واتفاقية حقوق الطفل التي صادقت عليها بيونغ يانغ.
بعض الإصلاحات المحدودة
رغم الصورة القاتمة، يشير التقرير إلى بعض التحسينات الطفيفة، فقد تحدث لاجئون عن انخفاض طفيف في العنف الجسدي داخل مرافق الاحتجاز، وزيادة وعي بعض عناصر الأمن بمعايير معاملة المحتجزين، كما صدّقت كوريا الشمالية على معاهدتين دوليتين إضافيتين لحقوق الإنسان، وقدمت تقارير دورية لعدد من لجان الأمم المتحدة، لكن هذه الإصلاحات تبقى محدودة للغاية مقارنة بحجم الانتهاكات.
القانون الدولي وواجب المساءلة
وفق القانون الدولي، الانتهاكات الموثقة في كوريا الشمالية قد ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية. لجنة التحقيق الأممية عام 2014 كانت قد أوصت بإحالة الوضع إلى المحكمة الجنائية الدولية، وهو مطلب جددته تقارير المفوضية الأخيرة، غير أن الانقسام السياسي داخل مجلس الأمن حال دون إحراز تقدم في هذا الملف، وتؤكد المنظمات الحقوقية الدولية، ومنها العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، أن تجاهل المساءلة يفاقم معاناة السكان ويمنح النظام ضوءاً أخضر لمواصلة القمع.
المجتمع الدولي بين العقوبات والمساعدات
العقوبات الدولية المفروضة على كوريا الشمالية بسبب برنامجها النووي والصاروخي أثرت بشكل غير مباشر على حياة السكان، وشدد تقرير المفوض السامي على ضرورة أن تراعي العقوبات عدم الإضرار بالحقوق الأساسية، وخاصة الحق في الغذاء والصحة، من جهة أخرى، تدعو الأمم المتحدة إلى توسيع قنوات المساعدات الإنسانية وضمان وصولها إلى الفئات الأكثر هشاشة بعيداً عن سيطرة الدولة.
إرث الحرب والانعزال
لفهم الأزمة الحقوقية في كوريا الشمالية، لا بد من العودة إلى جذور الدولة الحديثة التي تشكلت بعد الحرب الكورية (1950– 1953)، منذ ذلك الحين، اتبعت بيونغ يانغ سياسة الانغلاق والتعبئة العسكرية الدائمة، ما جعل الأمن يتفوق على أي اعتبار آخر، هذه الخلفية التاريخية تفسر جانباً من استمرار القمع، لكنها لا تبرره، خاصة في ظل معاناة شعب يعيش منذ عقود في عزلة عن العالم، محروم من أبسط حقوقه.
توصيات عاجلة وبصيص أمل
التقرير الأممي يحدد خطوات عاجلة يمكن أن تمنح الشعب الكوري الشمالي أملاً في التغيير، تشمل إغلاق معسكرات الاعتقال السياسي، وإنهاء عقوبة الإعدام، وتمكين اللقاءات العائلية، وإنهاء التعذيب وسوء المعاملة في السجون، إضافة إلى السماح للآليات الدولية بزيارة البلاد وتقديم الدعم الفني لتحسين ظروف الاحتجاز، وقال المفوض السامي فولكر تورك: "إن اتخاذ هذه الخطوات من شأنه أن يمنح الشعب بصيص أمل في مستقبل أكثر حريةً وحقوقاً".
الوضع الحقوقي في كوريا الشمالية يظل من بين الأسوأ عالمياً، حيث يعيش السكان بين مطرقة الجوع وسندان القمع السياسي، ورغم وجود بعض الإصلاحات الشكلية، تبقى الهوة واسعة بين التزامات الدولة الدولية وواقع حياة مواطنيها، وإذا لم يتحرك المجتمع الدولي بشكل فعال، فإن العقد المقبل قد يكون تكراراً مأساوياً لعقد ضائع آخر.